سورة القصص - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (القصص)


        


{طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (6) وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (8)}.
التفسير:
{طسم} مبتدأ، وخبره {تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ}.
فهذه الآيات البينة التي ضم عليها هذا الكتاب المبين، هى هدى ورحمة للمؤمنين، يرون فيها، وعلى أضوائها، وجه الحق، فتتجه عقولهم إليه، وتتفتح قلوبهم له.. أما من ختم اللّه على قلوبهم وسمعهم، وجعل على أبصارهم غشاوة من أهل الشّقوة- فإن آيات اللّه البينة الواضحة، تستغلق عليهم، فلا تقع في آذانهم، ولا تمر على عقولهم وقلوبهم إلا كما تمر هذه الحروف {طسم} وأمثالها، مما هو أصوات، لا ينتظم منها معنى، إلا عند الراسخين في العلم.
قوله تعالى: {نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.
أي من آيات هذا الكتاب المبين، نتلو عليك هذه الأنباء، مما كان بين موسى وفرعون، منزّلة من عالم الحق، بالحق.. {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي مستعدون بفطرتهم للإيمان، متقبلون للحق، إذا بانت لهم دلائله، ووضحت لهم سبيله.
وفي قوله تعالى: {نَتْلُوا عَلَيْكَ} بإسناد الفعل إلى اللّه سبحانه وتعالى، مع أن الذي يتلو هذه الآيات على النبي، هو جبريل- في هذا تكريم للنبى، وإدناء له من ربه، الذي يتلو عليه هذه الآيات.
قوله تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}.
هو ابتداء بما يتلى من نبأ موسى وفرعون.
وقد بدىء بالحديث عن فرعون، فكشف عن شخصه الذي يكشف عن إنسان يلبس ثوب الجبروت والطغيان.. فقد علا في الأرض، وجعل الناس شيعا، وهم أمة واحدة، من طينة واحدة.. فهو بعلوّه واستكباره قد انعزل عن الناس، فكان رأسا، وكان الناس جميعا أرجلا!! كان سيدا، وأصبح الناس كلهم في سلطانه عبيدا.. كان إلها، وصار الناس له مألوهين.
ثم إنه بعمله هذا قد صنف الناس أصنافا، ورتبهم طبقات.. وبذلك تسلطت كل طبقة على من هي تحتها.. وبذلك أغرى الناس بالناس، وشغل بعضهم ببعض!.
وقوله تعالى: {يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ} المراد بالطائفة هنا هم بنو إسرائيل.. وإذا كان فرعون قد استضعف الناس جميعا ممن هم تحت سلطانه، فإنه بالغ في استضعاف هذه الجماعة، وأخذها بالبأساء والضراء.. فهو يذبح أبناءهم، حتى يقطع نسلهم، ويستحيى نساءهم، أي يمتهنهن، ويفضح سرهن، فلا يرعى لهن حرمة، ولا يبقى لهن على حياء!.
وقوله تعالى: {إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} هو الوصف الجامع لمساوىء فرعون- إنه لا يفعل إلا ما كان من واردات الفساد.. فهو كيان فاسد، لا يصدر عنه إلا ما هو فاسد.
قوله تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ}.
هو معطوف على إرادة لفرعون، التي كان يقصد إليها من وراء هذا الإدلال للناس، وما يأخذهم به من ذبح الأبناء، واستحياء النساء، وهو التمكين لسلطانه، وازدياد هذا السلطان علوا، بازدياد الناس من تحته نزولا وانحدارا.. فهو يريد هذا، واللّه سبحانه يريد أن يمن على هؤلاء المستضعفين.
وإرادة اللّه هي الغالبة.
وهذا هو بعض السر في قوله تعالى: {وَنُرِيدُ} يتعلق الفعل بالمستقبل، مع أن إرادة اللّه قديمة أزلية.. ولكنهاهنا إرادة خالقة، قد جاء أوان إمضائها على الوجه الذي أراده سبحانه.. إنها تصدم إرادة فرعون الذي يريد بها إذلال تلك الجماعة، واللّه يريد خلاصها من يده، والمنّ عليها بالتحرر من هذا الأسر.
والمنّ: التفضل والإحسان ابتداء من غير مقابل.
والأئمة: القادة، الذين يكونون أمام غيرهم.
وقوله تعالى: {وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ} أي نثبت لهم مكانا فيها.
وقوله تعالى: {وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ} أي نفسد على فرعون تدبيره، ونبطل كيده، فيما قصد إليه من وراء بغيه وعدوانه.. فمن هذه الجهة التي كان يعمل على القضاء عليها، خوفا على سلطانه- من هذه الجهة سيطلع عليه ما يذهب بسلطانه، ويقضى عليه هو ومن معه.! حتى لكأنما يريد إهلاك نفسه عمدا!.
و{هامان} هو اليد العاملة لفرعون، فيما يشاء.. وقد يكون وزيرا لفرعون، أو مستشارا له، أو كبير جنده.. وهو الذي دعاه فرعون إلى أن يبنى له صرحا يطلع منه إلى إله موسى.
وفي هذا يقول اللّه تعالى: {وَقالَ فِرْعَوْنُ.. يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى} [36- 37: غافر] قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}.
فى هذه الآية والآيات التي بعدها، يكشف اللّه سبحانه وتعالى عن الأسباب التي يقيمها سبحانه، لتمضى بها إرادته، وتتحقق مشيئته.
وإذا كان اللّه سبحانه وتعالى في غنى عن هذه الأسباب التي تتصل بالمسببات، حيث يقول للشىء {كن} فيكون- فإنه سبحانه، يرينا بهذا التدبير أن هناك أسبابا يتوسل بها إلى المسببات، وأن علينا أن نأخذ كل أمر بأسبابه التي تقع في حسابنا وتقديرنا.
وأول سبب من تلك الأسباب التي تقع بها إرادة اللّه في فرعون، هو ميلاد موسى، الذي سيكون على يده هلاك فرعون.! فهذا هو السبب الأول الذي ستدور عليه الأسباب المؤدية إلى هلاك فرعون!.
وحين ولد موسى، كان فرعون يمضى حكمه في أبناء بني إسرائيل، فيترصد جنوده لكل مولود ذكر ليذبحوه.
وقد أوحى اللّه سبحانه إلى أم موسى أن تمسك وليدها، وأن ترضعه، أي تتولى إرضاعه من لبنها، لا أن تدعه لمرضع غيرها، وذلك لأمر سيتضح فيما بعد، حين يقع الوليد في يد امرأة فرعون، فتلتمس له المراضع، فلا يقبل غير الثدي الذي رضع منه، أول رضعات، وهو ثدى أمه.. وبذلك يجتمع الوليد وأمه، لنمضى الأسباب إلى غاياتها.
وقد يكون الوحى المشار إليه هنا، هو إلهام من اللّه سبحانه وتعالى، فوقع في تفكير أم موسى أن تصنع هذا الصنيع. وأن تحتال هذه الحيلة، وأن تغامر تلك المغامرة، فهى على ما بها من خطر يتهدد الوليد، فإنها فرارا بهذا الوليد من هلاك محقق، تدبر له هذا التدبير.. وقد ينجو الوليد وقد يهلك بهذا التدبير الذي دبرته، فإن نجا، فهذا ما ترجوه، وإن هلك فموته غرقا بعيدا عنها، أهون عليها من أن يذبح بين يديها!.
وقوله تعالى: {فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} أي أمسكيه عندك، وأرضعيه، حتى إذا استشعرت خوفا من فرعون أن يصل إليه فألقيه في اليم، أي النهر، وهو نهر النيل.
وقوله تعالى: {وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} تطمين لأم الوليد، وتسكين لمخاوفها التي تطل عليها من إلقائه في اليم.. فهى إذ تستمع إلى هذا الوعد من رب العالمين، تدفع بابنها إلى اليم، في غير تردد، هذا إذا كان الأمر وحيا مباشرا، أما إذا كان إلهاما، فتكون هذه الأوامر الموجهة إليها، خواطر قد جرت في تفكيرها، ثم ألزمت نفسها بها، وأقامت أمرها عليها.. فكأنها أوامر صادرة إليها من جهة عليا، لا تستطيع لها خلافا.
إنها القدر الذي يسير الإنسان، ويحدد خطواته، ويقيم وجهه على هذا الأمر أو ذاك.. وقد هداها إيمانها باللّه إلى هذا الاطمئنان.
قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ}.
وتتحرك الأسباب إلى غايتها، خطوة خطوة.. فهذا موسى الوليد ينتقل من يد أمه إلى صدر النهر، ثم ينتقل من صدر النهر إلى بيت فرعون.. وهكذا يمضى القدر في طريقه، لا يدرى الناس من أمره شيئا، حتى ليربّى فرعون في حجره، العدوّ الذي كان يطلبه! وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً}.
فهو لم يلتقط حين التقط ليكون لفرعون عدوا وحزنا، وإنما التقطه آل فرعون ليكون لهم قرة عين، كما تقول امرأة فرعون: {لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} ولكنّ للقدر طريقا غير هذا الطريق.. لقد أراد فرعون أمرا، وأراد اللّه أمرا، ولا مرد لما أراد اللّه.
وقوله تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ}.
يجوز أن يكون وصفهم بالخاطئين، من الخطأ وهو ضد الصواب.. بمعنى أنهم كانوا في جهل وعمى عما ينكشف عن هذا الأمر الذي فعلوه بأيديهم.. وفي هذا ما يكذب ادعاء فرعون للألوهية، ويكشف زيف هذا الادعاء.. فلو أنه كان إلها، لما اختار من بين المواليد كلها هذا الوليد الذي يكون على يديه هلاكه، وموته على تلك الميتة الشنعاء! وإما أن يكون هذا الوصف من الخطء والخطيئة- ويكون هذا الوصف تعليلا لما أخذهم اللّه به من هذا التدبير الذي يوردهم موارد الهلاك.


{وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (9) وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (12) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (13) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ.. لا تَقْتُلُوهُ.. عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}.
وتتحرك أحداث القدر إلى غاياتها، وها هو ذا الوليد بين يدى فرعون.
إنه الوليد الذي يطلبه ذبحا ممن يذبح من أبناء إسرائيل.. فالطفل إسرائيلى بلا ريب.. إذ ما من أم تلقى بابنها في اليم، إلا أن تكون من الإسرائيليات، فرارا به من موت محقق إلى موت محتمل.. إذ ربما يلتقطه رجل أو امرأة ممن لا يعنيهم أمر فرعون، من الصيادين، أو الفلاحين، فيجد الطفل من يربّيه ابنا، أو عبدا!! هكذا كانت نظرة فرعون والملأ حوله إلى هذا الوليد.. إنه إسرائيلى.. وإذن فليذبح كما ذبح ويذبح أبناء جنسه.. ولكن القدر يحرك سببا، فيفسد على فرعون وملائه هذا الرأى، حيث تتطلع امرأة فرعون إلى الوليد- وكانت غير ولود- فتتحرك فيها غريزة الأمومة، وتصرخ في أعماقها عواطف الأم نحو هذا الطفل، وإذا هو لعينيها الطفل الذي ولدته، لساعتها فتتشبث به، وتصرخ في الأيدى الممتدة لذبحه:- ولدي!! كبدى وقرة عينى!! {لا تقتلوه}.
وترتفع الأيدى عن مهد الوليد، ويتطلع فرعون إلى امرأته عجبا دهشا..!
ولا تمهله حتى ينطق بالأمر القاطع في هذا الوليد.. فتلقاه متوددة متعطفة، مسترحمة لنفسها- وقد حرمت الولد- أن يدع لها فرعون هذا الولد، من بين آلاف الأولاد الذين أراق دماءهم، وأزهق أرواحهم.. وإن ولدا واحدا، لا يقدم ولا يؤخر في الأمر الذي يتغياه فرعون، من قتل هؤلاء الأطفال-
فتقول لفرعون في نودد وتلطف واسترحام: {عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا}! وتقع هذه الكلمات من قلب فرعون موقعا، فيجيب امرأته إلى ما طلبت، ويترك لها الوليد، تترضى به أنوثتها، وتشبع به جوع أمومتها!- وقوله تعالى: {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} جملة حالية، من فاعل فعل محذوف، دل عليه سياق الكلام.. والتقدير.. تركوا الوليد، واستثنوه من الذبح، وهم لا يشعرون بما سيأتيهم من هذا الوليد، مما كانوا يحذرون.
قوله تعالى: {وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}.
فى الآية لفتة جانبية إلى أم موسى، وإلى ما تعانى من آلام نفسية، بعد أن ألقت بوليدها في اليم.. وفي هذه اللفتة تتصل خيوط الأحداث التي ينسج منها القدر هذا الحدث الكبير، الذي سيولد بعد قليل.. وأم موسى لها دورهام في الأحداث المقبلة.. سينكشف فيما بعد!- وفي قوله تعالى: {وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً} إشارة إلى ما ترك ضياع الولد من يدها، من فراغ كبير، في مشاعرها، وأحاسيسها.. فلقد تعطلت بذهابه عنها كل العواطف التي تغذى بها الأم طفلها، من سهر عليه، ومناغاة له، واشتغال به في نومه، ويقظته، وفي بكائه، وصمته، وفي حركته وسكونه.
إن جوارحها كلها التي ترصدها الأم لطفلها، قد أصبحت أدوات معطلة لا تعمل، وهذا بدوره قد جعل قلبها- وهو مركز العواطف والمشاعر- كيانا فارغا، لا يستقبل من الطفل ما يصل الأم به، من مشاعر وعواطف، إلا تلك العواطف السلبية.. من قلق، وأسى، ولوعة.. وهذا هو السر في هذا التعبير المعجز: {وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً}!.
وفي قوله تعالى: {أُمِّ مُوسى} إشارة إلى أن هذا الوليد، قد أصبح- في رعاية اللّه، وفي ضمان وعده بحفظه- قد أصبح ذا وجود معترف به في هذا المحيط الذي ضاعت فيه معالم الأطفال، وأهدرت فيه دماؤهم.. إنه الآن شخصية معروفة، وعلم ظاهر، يأخذ مكانه في هذه الأحداث، تماما كما يأخذ فرعون مكانه فيها.
وقوله تعالى: {إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ}.
أي أنها- وقد فرغ قلبها من هذا المهد الذي كان لوليدها في سويداء القلب- أو شكت أن تصرخ وتندب هذا الوليد، وتنادى في الناس: إن هذا الطفل الذي وجد ملقى في اليمّ والذي التقطه آل فرعون هو وليدها.. وإنها لتود أن تلقى عليه ولو نظرة واحدة، قبل أن يصير إلى هذا المصير المجهول!- وقوله تعالى: {لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها} أي أمسكنا على قلبها ما فيه من نوازع تريد الانطلاق إلى الكشف عن وجه الوليد، وفضح أمره.
وقوله تعالى: {لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} تعليل لهذا لربط الذي ربط اللّه سبحانه، به على قلبها، وهو أنها بعد أن تتكشف لها الأمور، ستعلم أن ما وعدها اللّه حقّ، وبهذا يتأكد إيمانها باللّه، ويقوى يقينها به وفي هذا إشارة إلى أن ما يبتلى به المؤمنون الصابرون من أرزاء ومحن، هو تثبيت لإيمانهم، وترسيخ لقواعد هذا الإيمان في قلوبهم، حيث ينكشف لهم وراء كل رزء، وعقب كل محنة، أن ذلك لم يكن إلا عن تدبير الحكيم العليم، وأنهم لو استقبلوا من أمورهم ما استدبروا، لما أقاموها إلا على هذا الوجه الذي أقامه اللّه ربّ العالمين، وبهذا ينتقلون من حال القلق، والجزع في مواجهة المصائب والمحن، إلى حال التسليم، والرضا.. وهذا هو الإيمان في أرفع مقاماته، وأعلى منازله.
قوله تعالى: {وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ.. فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}.
وبدلا من أن كانت أم موسى على وشك أن تطرق باب فرعون، وتستصرخ هناك، فإنها- وقد ربط اللّه على قلبها- قد رجعت إلى صوابها، وأخذت تنظر إلى الأمور بعين الحكمة والروية، فطلبت إلى ابنتها أن تتحسس أخباره من بعيد، وأن تتسمع ما يتحدث به المتحدثون من حاشية فرعون من أمر هذا الوليد الذي التقطوه.. ما شأنه؟ وماذا حل به؟ وهل هو حيّ أم ميت؟.. وتسللت الأخت في خفّة ولطف، تحوم حول بيت فرعون، ولا تلمّ به، وتلتقط الأخبار المتساقطة من أفواه القوم، ولا تستخبرهم عنها.
حتى لا يفتضح أمرها، وأمر الوليد معها.
وفي قوله تعالى: {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} إعجاز من من إعجاز النظم القرآنى، الذي تشخّص فيه الكلمة ألطف المعاني وأرقها، فإذا شعاعات هذا النور، كيان شاخص، يمسك باليد، ويصور بالعين!.
ففى كلمة {بصرت} نرى أن قلب تلك الأخت كان أمام عينيها، فلم تبحث عن أخيها، بعينيها، ولم تتسمع أخباره بأذنيها، وإنما كانت كيانا من الحذر والحيطة، بحيث تقرأ الحركات والإشارات، وتتأول الرموز والألغاز.
فالبصر هنا، بصر علم، أقرب ما يكون إلى الإلهام.. كما يقول سبحانه وتعالى:
{قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ.. قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ} [94- 96 طه] وفي كلمة: {عَنْ جُنُبٍ} إشارة إلى الموقف الذي كانت تأخذه هذه الأخت من موقع الحدث.. إنها لم تكن تلقى الأمر لقاء مواجها، وإنما كانت تلقاه عرضا، كأنه من غير قصد! وفي قوله: {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} تصفية هذا الموقف، المحاذر، المجانب، من أن يدخل عليه ما يدخل على موقف كثير من المحاذرين المجانيين من أخطاء، لا يلتفتون إليها، ولا يعملون حسابا لها، فتكون سببا في كشف أمرهم، وفضح سترهم..!
فانظر إلى هذه الكلمات النابضة بهذه الأسرار التي لا تنتهى.. إنها كلمات اللّه.. وكفى! قوله تعالى: {وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ}؟.
وتتحرك الأحداث مرة أخرى إلى الوليد وقد أصبح في آل فرعون، تلتمس له المراضع، ويعرض عليه واحدة واحدة، فلا يقبل ثديا منهن!! وكيف؟.
لقد كان من تدبير اللّه سبحانه وتعالى أن ألهم أمه أن ترضعه من ثديها، كما يقول سبحانه: {وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ}.
وبهذا التدبير ألف الوليد ثدى أمه، وألف اللبن الذي رضعه من هذا الثدي.. فلما عرض عليه ثدى غير الذي رضع منه، ردّه، وأبى أن يطعم من لبنه.. وهذا أمر طبيعى، فكثير من الأطفال لا يتحولون عن الثدي الذي رضعوا منه الرضعات الأولى.
وهنا يبدو تأبى الوليد على المراضع، أمرا جاريا على المألوف.. وهنا أيضا تلتمس له المراضع، في صور وأشكال شتّى.. إنه ابن فرعون.. وإن الدولة كلّها في خدمته.. فيكثر لذلك البحث عن المرضع، التي يستجيب لها ويقبل عليها، وتعمل أجهزة الدولة كلها لتحقيق هذا الأمر. وعندئذ لا ترى أخت موسى بأسا من أن تعرض ما عندها من بضاعة لعلها تروق لأعين القوم، ولعلها تحقق لهم ما يريدون.. {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ} ولا يتردد القوم في قبول هذا العرض.. ويتم اللقاء بين موسى وأمه، ويعرض عليه ثديها، فيقبله.. وتصبح الأم في حاشيته فرعون، مرضعا لهذا الوليد.
وفي قوله تعالى: {وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ} إشارة إلى امتناع الطفل عن الرضاعة من مرضع غير أمه.. وفي التعبير عن هذا بالتحريم، تأكيد لهذا الامتناع، كما يمتنع المؤمن عن تناول ما حرم اللّه.
وفي قوله تعالى: {مِنْ قَبْلُ} إشارة إلى هذا التدبير الذي كان من إلهام اللّه سبحانه وتعالى أمّ موسى، بإرضاع وليدها.. فهو بهذه الرضاعة قد عاف كل لبن غير لبن أمه.
قوله تعالى: {فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}.
وتنتهى الأحداث بهذا إلى موقف من مواقف الحدث الكبير.. فيعود الطفل إلى أمه، ويتحقق ما وعدها اللّه سبحانه وتعالى به قوله: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ} وبهذا تعلم أن وعد اللّه حق.. وكثير من الناس لا يعلمون هذا، ولا يقدرون اللّه حق قدره.
قوله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}.
وهذا تحقيق للجانب الآخر من وعد اللّه، وهوقوله تعالى: {وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} وإذا كان هذا الموعد لم يكن قد تحقق، والأحداث لا تزال جارية إلى غاياتها، فإنه قد تحق، بعد أن بلغت الأحداث الغاية المنطقة إليها، كما يعلم ذلك من عاصروا نضج الأحداث، كما علمها من جاء بعدهم.
وفي قوله تعالى: {وَاسْتَوى} إشارة إلى الحال التي كان عليها موسى وهو يتلقى رسالة ربه. وهو أنه لم يتناول هذه الرسالة إلا بعد أن صار رجلا كاملا، وذلك في حدود الأربعين سنة من عمره، وحيث يستكمل فيها الإنسان كل أسباب الرجولة، في جسده، وفي عقله، كما يقول تعالى: {حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [15: الأحقاف].
وقوله تعالى: {آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً} والحكم: السلطان، سواء أكان روحيّا أو ماديّا، وقد كان لموسى، السلطان الروحيّ والماديّ معا على بني إسرائيل.. والعلم هو ما مع هذا السلطان من علم من اللّه سبحانه وتعالى، فبهذا العلم الذي قام إلى جانب هذا السلطان، كمل الأمر، وتمت النعمة.


{وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ.. إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ}.
هنا تنقلنا الآيات نقلة بعيدة، بين موسى وقد احتواه صدر أمه مرة أخرى بعد أن ضمّ إلى بيت فرعون، وبين موسى وقد أصبح رجلا مكتمل الرجولة، يأخذ مكانه بين الرجال.
وقد تركتنا الآيات السابقة مع وعد من اللّه سبحانه وتعالى، قد حققه لموسى، بعد أن بلغ أشدّه واستوى.. ولكن الإخبار بتحقيق هذا الوعد، كان أشبه بختام القصة، وإذا بنا هنا نجده خيطا مشدودا من خيوط هذه القصة، قد طويت له الأحداث ليبرز في هذا الموقف الذي رأينا فيه موسى، الطفل، وقد عاد إلى أمه بعد أن ألقت به في اليمّ، ولكنّا لا نراه يعود إليها وحده، وإنما يعود ملففا برداء هذا الوعد الكريم، الذي وعدت به أمه من اللّه سبحانه وتعالى، في قوله جل شأنه: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}.
وها هو ذا يعود إلى أمه وهو يحمل في كيانه، الحكم والعلم.
قلنا إن أحداثا كثيرة طويت، منذ التقى الطفل بأمه إلى أن رأيناه هنا يدخل المدينة، ثم يدخل في صراع ينتهى بقتل إنسان!
وما أغرب تصاريف القدر.. ينجو موسى من القتل.. ثم ها هو ذا يمد يده بالقتل! ومن يدرى؟ فلعل هذا القتيل كان هو الذي انتشل موسى من اليم!! قوله تعالى: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها}.
اختلف المفسرون في هذه المدينة، ما هي بين مدن مصر القديمة؟ على أن هذا الخلاف لا يعنينا، وحسبنا أنها مدينة فرعونية، وفي تعريفها، إشارة إلى أنها مدينة المدن، أي العاصمة.
أما كيف دخلها موسى.. وهل كان خارجها حتى يدخلها؟ وإذن فأين كان؟ هل كان قد ترك فرعون، وعاش بعيدا عن عاصمة ملكه؟ قد يكون! كما قد يحتمل أن فرعون كان يعيش في قصره، بعيدا عن المدينة، منعزلا به عن عامة الناس! وعلى أيّ فإن موسى قد دخل المدينة دخول من كان بعيدا عنها فترة من الزمن.
وهنا سؤال: لما ذا يدخل موسى المدينة في غفلة من أهلها؟ هل كان هناك ما يحول بينه وبين دخولها؟ وهل كان مطلوبا لفرعون أو غيره لجناية جناها؟
يذهب المفسرون في هذا مذاهب شتى، ويلقون بكل ما يمكن أن يفترضه العقل في طلب علة لهذا الدخول المتخفى، تحت غفلة الأعين عنه.
والرأى عندنا- واللّه أعلم- أن المراد بغفلة أهل المدينة، هو غفلتهم عن موسى، وعن أنه الابن المتبنى لفرعون.. ولعله كان متخفيا ليدارى صفته تلك، حتى لا يلفت إليه الأنظار، التي تتعلق دائما، بالسلطان، وبحاشية السلطان!
وفي أثناء سير موسى في المدينة، وجد فيها رجلين يقتتلان.. أحدهما إسرائيلى {من شيعته} والآخر مصرى {من عدوه}.
إذ لا شك أن موسى كان يعرف أنه إسرائيلى، كما لا شك في أنه كان يعرف الإسرائيليين، بسماتهم وبزيهم الذي فرضه فرعون عليهم.
وقد استثار موسى هذا المشهد الذي كان بين المصري والإسرائيلى.
فالإسرائيلى كان تحت يد قاهرة، لعلها كانت يد أحد أصحاب السلطان، التي تلهبه بالسياط.. ولم يطق موسى صبرا على هذا الذي يراه بعينيه، من إنسان يضرب إنسانا في غير مبالاة.. فدخل بين الرجلين، ليدفع عن الإسرائيلى هذه اليد التي تسومه سوء العذاب.. وطبيعى أن يتصدى المصري لموسى، وأن يعدّ ذلك فضولا منه بالتدخل فيما لا يعنيه.. فكان بين الرجلين- موسى والمصري- شدّ وجذب، بل ربما مد المصري يده إلى موسى، {فَوَكَزَهُ مُوسى} أي دفعه بقبضة يده- وهو لا يريد قتله- وإذا الرجل يسقط على الأرض ميتا!! ويتحرك موسى سريعا، ويخلص بنفسه، دون أن يعرف أحد من جنى هذه الجناية ويرجع موسى على نفسه، يلومها أن قتل نفسا يغير نفس، ويرى أن ما فعله لم يكن إلا عملا ما كان له أن يفعله.. إنه {مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ.. إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ}.
ولا يجد موسى غير اللّه، يبرأ إليه من نفسه، ويطلب الغفران مما جنت يداه.
{قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي، فَغَفَرَ لَهُ.. إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} إنه وإن يكن قتل خطأ، فهو على كل حال ذنب، وذنب عظيم في حق من هو مرشح للنبوة.. ولكن مغفرة اللّه فوق كل ذنب وإن عظم، لمن تاب، وأخلص التوبة وطلب المغفرة: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً} [110: النساء].
قوله تعالى: {قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} يرى المفسرون أن النعمة التي يشير إليها موسى، والتي يرتب عليها هذا العهد الذي قطعه على نفسه، هو قبول توبته، ومغفرة ذنبه.. وهذا بعيد.
لأن موسى لم يكن قد أوحى إليه بعد.. فمن أين يعلم أن اللّه قد غفر له؟
ولعل الأولى من هذا، أن يقال إن النعمة التي يشير إليها موسى، هى ما وجده في نفسه من هذه القوة الجسدية، التي استطاع بها أن يقتل رجلا بدفعة يده.. فهو بهذه النعمة التي أنعم اللّه بها عليه يملك قوة خارقة، وإنه ينبغى- لكى يرعى هذه النعمة، ويؤدى حق شكرها للّه- ألا يستخدمها إلا في الخير، وألا يظاهر بها الأشرار المعتدين، وهذا ما يشير إليه قوله: {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ}! هذا، وفي مجريات الأحداث إلى غايتها التي ستنتهى إليها، نرى أن قتل المصري هنا، هو قوة دافعة إلى تلك الغاية، وأنها ستدفع بموسى للخروج من مصر إلى أرض مدين، حيث يقضى هناك عشر سنين أو نحوها، في كنف نبى كريم من أنبياء اللّه، هو شعيب عليه السلام، فتكون تلك السنون إعدادا روحيا له، حتى يؤهل لحمل الرسالة السماوية التي تنتظره! قوله تعالى: {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ.. فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ.. قالَ لَهُ مُوسى.. إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ}.
خرج موسى يسير في طرقات المدينة، يتحسس أخبار الفعلة التي فعلها بالأمس، ويتسمع حديث الناس عنها، وعمن فعلها، وذلك ليستوثق أنه غير مطالب بما حدث.. وتلك غريزة تدفع بمرتكب الجريمة أن يحوم حولها، كما يقرر ذلك علماء الإجرام.. وإلا فماذا كان يحمل موسى على البقاء في المدينة؟
ألا يخرج منها كما دخل إليها، دون أن يشعر به أحد؟.
وقوله تعالى: {خائِفاً يَتَرَقَّبُ} تصوير لما كان يلبس موسى من خوف واضطراب.
وفي قوله تعالى: {يَتَرَقَّبُ} إشارة إلى أنه كان يتطلع إلى وجوه الناس، ويستقرىء ما قد تكون تركت عليها الحادثة من آثار!.
ومع هذا الهمّ الذي يعالجه موسى، تفجؤه الأحداث بما لم يكن يقع في الحسبان.. لقد رأى الإسرائيلى، الذي حمله هذا الوزر، وساقه إلى هذا الموقف- رآه في حال كتلك الحال التي رآه عليها بالأمس.. رآه مشتبكا مع مصرى في صراع غير متكافىء.. ثم ما إن رأى الإسرائيلى موسى حتى علا صراخه، طالبا الغوث والنجدة.. {فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ} أي يستغيث به.. وينظر موسى إلى الإسرائيلى بعين المغيظ المحنق، ويتمثل فيه الشيطان الذي رأى أنه هو الذي أوقعه فيما وقع فيه بالأمس، وقال عنه: {هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} وهنا يلقى الإسرائيلى بقوله: {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ}.
وهكذا يضع القدر بين يدى موسى صورة مصغرة لما سيكون بينه وبين بني إسرائيل، تنعكس على مرآة ما كان بينه وبين هذا الإسرائيلى.
لقد خلّص موسى الإسرائيلى من يد القوة الباغية التي كان يئن تحت ضرباتها.. ثم ها هو ذا الإسرائيلى، يلتحم من جديد في معركة، ويريد أن يدفع موسى إلى مثل ما دفعه إليه بالأمس، فيقتل مصريا آخر كما قتل مصريا بالأمس.
ثم بعد سنوات سيخلّص موسى بني إسرائيل جميعا من يد فرعون، ويخلع عنهم ثوب الذّلة والهوان الذي ألبسهم إياه فرعون.. ولكنهم لا يكادون يخرجون من هذا البلاء، وينسمون أنسام العافية، حتى يديروا ظهورهم إلى موسى، وحتى يرجموه بكل ما انطوت عليه نفوسهم من خبث ومكر، فيرميهم اللّه سبحانه بالتّيه أربعين سنة في الصحراء، ويضربهم بالذلة والمسكنة.
هكذا القوم، يفسدهم الإحسان، وتبطرهم النعمة، فيلدغون اليد التي تطعمهم، وينفثون سمومهم فيمن يحسن إليهم! ومن يدرى؟ فلعل الإسرائيلى تبع موسى بالأمس بعد أن تخلّص من المصري القتيل، وعرف من هو.. ثم ظل يتبع خطاه، حتى كان صباح اليوم الثاني، فلما رأى موسى اصطنع اشتباكا بينه وبين أحد المصريين، وذلك عن نية مبيتة، وتدبير مقصود، كما سنرى.
قوله تعالى: {فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ.. إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ}.
لم نجد عند المفسّرين مفهوما لهذه الآية، نطمئن إليه، ونجد فيه هذا التجاوب والانسجام بين آيات القرآن الكريم وكلماته.
والمقولة التي تكاد تلتقى عندها الآراء، هى أن الإسرائيلى، حين استصرخ موسى، ثم سمع من موسى قوله له: {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} توقع الشر من موسى.
ثم إن موسى لما اتجه إليهما، يريد أن يبطش بالمصري، ظن الإسرائيلى أنه يريد البطش به هو بعد أن رماه بقوله: {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} وهنا صرخ في وجه موسى: {يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ؟..}.
وهذا قول يمكن أن يقال، لو أن أحداث القصة كانت تجرى على المستوي البشرى المحدود، ولكن- وكما رأينا، وما نرى- تجرى الأحداث في آفاق عالية، بعيدة عن المستوي الإنسانى، تقديرا، وتدبيرا.
ونحن بهذا النظر إلى وضع القصة، في هذا المستوي العالي، ننظر إلى أحداثها.. وهنا نرى التلاحم والتجاوب بين مجريات الأحداث، فلا تخلخل، ولا تفاوت ولا تصادم، بين حدث وحدث.. في اجتماعها، وافتراقها.
على السواء.
(موسى.. والقتيل الذي قتله).
وهنا نعرض مفهومنا للآية الكريمة، وهو رأى ننفرد به، ونسأل اللّه أن يكون صوابا.. فنقول: رأينا في الآيات السابقة، أن حدثا عارضا عرض لموسى، وهو يدخل المدينة متخفيا، ولا يعرف أحد شخصه.. حيث لقى إسرائيليا ومصريا يقتتلان.. ثم كان أن وكز المصري فقضى عليه.. وهنا ينطلق موسى ناجيا بنفسه.. أما الإسرائيلى فهو بين ثلاثة أمور: إما أن يكون فرّ، ثم أمسك به، ليسأل عن هذا القتيل، الذي كان لا بد أن تصله به صلة ما.
كأن يكون أجيرا عند المصري، أو عاملا تحت يده.
وإما أن يكون قد خاف على نفسه أن يعرف ويتهم بالقتل، فأسرع بالإخبار عن هذا الحدث وبأن مجهولا قبل هذا القتيل.
وإما أن يكون قد سعى متطوعا، ليدل على من قتل هذا القتيل.
وعلى أي فقد تبع الإسرائيلى موسى، وعرف مأواه الذي أوى إليه.. ثم كشف لرجال فرعون عن شخصية القاتل، وأنه موسى.. وهذه دعوى تحتاج إلى دليل عليها.
ثم إنه لكى يقوم هذا الدليل، كان بين الإسرائيلى، وبين رجال فرعون هذا التدبير، الذي اصطنعت له هذه المعركة بين الإسرائيلى، وبين مصرى آخر، على نحو ما وقعت عليه حادثة الأمس.. وذلك ليرى ما يكون من موسى حين يرى هذا المشهد، أيخف لنجدة الإسرائيلى، ويعتدى على المصري؟
إنه إن فعل فإن ذلك قرينة قوية على أنه هو الذي فعل فعلة الأمس! وقد كان.. فما أن خرج موسى من مأواه الذي قضى فيه ليلته، حتى وجد الإسرائيلى مشتبكا مع مصرى، وحتى هتف به الإسرائيلى مستصرخا!.
هذا، وعيون رجال فرعون ترقب من بعيد هذه التمثيلية، دون أن يدرى موسى ما يدير له.. فإنه لم يستطع أن يسكت على هذا العدوان الذي يسوم به الأقوياء الضعفاء سوء العذاب.. وأنه إذا كان الإسرائيلى رجل سوء، فإن ذلك لا يسوغ هذا الظلم الواقع تحته، حتى ليغادى ويصبّح بهذا الضرب المبرح! وإنه إذ يقول للإسرائيلى: {إنك لغوى مبين} يخف لنجدته وخلاصه من يد هذا المستبد به..!
وهنا يقع الصيد في الشبكة! فيلقى المصري موسى بهذه الجريمة التي كان يبحث لها عن متّهم.. فقال: {يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ.. إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ}.
ويفاجأ موسى بهذه التهمة، ويسقط في يده.. وهنا يخرج جنود فرعون.. وقد كشف الإسرائيلى عن شخصية موسى ربيب فرعون ومتبناه.. ويكثر الهرج والمرج.. وتصل الأخبار في سرعة خاطفة إلى بيت فرعون.. ويخفّ من بيت فرعون من يحضر هذا المشهد، فيعمل بأسلوب سياسى حكيم، يطفىء به هذه الفتنة، التي تمس فرعون، وتحرج موقفه في رعيته... إن إسرائيليا يقتل مصريا، هو فوق أنه جريمة قتل، هو جرم غليظ، وسابقة تنذر بالخطر.. ولكن هذا الإسرائيلى هو محسوب على فرعون، وفي العدوان عليه حطة بقدر حاشية فرعون، ورجال فرعون.. إن الأمر في غاية الحرج، والمخرج منه على أي وجه إن أرضى طرفا أساء إلى الطرف الآخر.
وإذن فلا بد من معالجته بالحكمة والرفق.. فكان هذا الأسلوب السياسى الحكيم، الذي خرج من قصر فرعون، في صورة هذا الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى.. إنه كبير من كبار رجال القصر، وقد خلا بموسى، وأسر إليه، أنه سيعمل على إطلاق سراحه، ولكن على أن يفر موسى من مصر، فلا يقع له أحد على أثر.. حتى إذا طلب للمحاكمة كان في عداد المفقودين.. ولا يعجز رجل القصر عن وسيلة يطلق بها موسى من يد الجند، دون أن يعلم أحد.. فهذا أمر من اليسير أن يدبره مع الجند، بعد أن يذهبوا بموسى على أعين الناس، وهو- كما يرون- في يد الجند، إلى حيث يساق إلى المحاكمة والقصاص..!
واستمع إلى قوله تعالى، عن هذا الرجل، الذي جاء من أقصى المدينة، وقام بهذا الدور الذي رأيناه يقوم به على مسرح الحدث:
{وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى.. قالَ يا مُوسى: إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ.. فَاخْرُجْ.. إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ}.
وفي هذه الآية تنكشف لنا أمور:
فأولا: أن هذا الرجل جاء من أقصى المدينة.. أي من أطرافها البعيدة.
وهذا يعنى أنه جاء من بيت فرعون، حيث كان فرعون يقيم في ظاهر المدينة، منعزلا بقصره عن الرعية، وهذا يؤيد الرأى الذي ذهبنا إليه في تفسير قوله تعالى: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها}.
وقلنا إن التعبير عن وجود موسى في المدينة بالدخول، يشير إلى أنه كان يعيش خارجا عنها.. وقلنا إن ذلك كان في قصر فرعون، الذي كان في أطراف المدينة، أو ظاهرها.
وثانيا: أن هذا الرجل جاء {يسعى} أي في عجلة ولهفة، يستبق الأحداث قبل أن تفلت من يده، وتتجه اتجاها غير الذي يراد لها أن تتجه إليه، ثم لا يستطيع التصرف فيها من غير أن تثير دخانا، أو تؤجج نارا.
وثالثا: ما أسرّ به الرجل إلى موسى في قوله تعالى: {إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ}، ففى هذا القول، الذي يملأ قلب موسى خوفا وفزعا، تهيّأ المطيّة الذلول التي يطير بها موسى، إلى حيث يختفى من مصر، دون تمهل أو توقف.
ورابعا: في قول الرجل لموسى: {فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} تحريض قوى لموسى على الفرار.. وأنه إنما تلقى نصيحة ناصح أمين، يشفق عليه، ويود الخلاص له مما تورّط فيه.. إنها كلمة رجل السياسة دائما.. إنه ناصح أبدا لكل من يتحدث إليه، ولو ألقى به في التهلكة!! أرأيت كيف يقيم لنا هذا الفهم الذي فهمنا عليه الآية منطقا سليما، تستقيم عليه مجريات الأحداث، وتتشكل منها وحدة متكاملة متجانسة، في حركتها إلى الغاية المقدورة لها؟.
تلك هي آيات اللّه، وذلك هو بعض ما يرى من وجوه إعجازها المبين.
أما أن يقال إن هذا الرجل الذي جاء يسعى ناصحا لموسى- هو مؤمن آل فرعون، الذي أشار إليه سبحانه وتعالى بقوله: {وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ}.
فهو قول مردود، لأن موسى لم يكن قد حمل الرسالة بعد.
قوله تعالى: {فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}.
وهكذا يتم هذا التدبير البارع الحكيم.. ويخرج موسى من مصر هاربا.
ولعله كان من تمام التدبير أن يذاع أنه هرب، وأن جنود الملك يجدّون في طلبه، وربما يذاع في الناس أنه قتل بيد الجند على حدود مصر، أو وراء الحدود.
وعلى أيّ فإن الأمر قد سوّى على هذا الوجه، دون أن يثير بلبلة في الخواطر، أو يحرك الألسنة بكلمة تقال في سر أو جهر، في الملك أو حاشية الملك.

1 | 2 | 3 | 4